إن هذا التراث شديد الثراء ، ويمثل جزءا كبيرا من المعطيات الثقافية التي تعد تفسر ذلك . إن نص ” بندر شاه ” وغيره من النصوص تؤكد سمات الحكي التراثي الشعبي ، التي اضطلعت بها الخصائص الجمالية الروائية في ذلك النص . وهذا يشهد بأن الكاتب لونه بلون مخصوص ، ليؤكد من ناحية على تميزه عن النصوص الروائية الكلاسيكية في الأدب الغربي ، وعن النصوص السائدة في الأدب العربي . وذلك يثبت من ناحية أخرى إسهام المبدع الطيب صالح في دعم نزعة تأصيل الرواية العربية .
استطاع الطيب صالح في أن يقدم نمطا وجوديا ومعيشيا في كتلة بشرية ؛ مرتبطة بالكتلة البشرية الكبيرة التي نقول عنها الأمة العربية . ويبدو أن أهم شيء صنعه في الرواية العربية ، أنه أضاء مناطق مظلمة في الوعي العربي . ففي ” بندر شاه ” على سبيل المثال خلط الروائي بين الأسطورة والحلم ، الواقع والتاريخ . ويظهر أي مكان ما من السودان في شكل مزيج من الواقع والخيال ، وقد نبه الكاتب إلى كثير من الرموز ، وعمد إلى صناعة وخلق أسطورته ، حيث حول الواقع إلى أسطورة ، ومزج بقدر ما بين الواقع والأسطورة . حيث ينفتح المعقول على اللا معقول ، وامتزجت الحقيقة بالخيال .
إذا كان الروائيون العرب قد بايعوا الطيب صالح أميرا من أمراء الرواية العربية المعاصرة ، فقد سبقهم إلى مثل هذه المبايعة نقاد وباحثون ومثقفون ومعجبون وقراء كثيرون ، أشادوا أيما إشادة بالطيب صالح إنسانا وروائيا متميزا . الطيب صالح لقب بـ” الولي الصالح ” ، حتى من دون عمامته . إنه ذاكرة السودان المتنقلة ، يحفظ لكتابه وشعرائه وزجاله على الخصوص ، ويحن لقريته ولوطنه الأم ، ونحس بأحشائه تتمزق وهو يكتب عن السودان . إن المحبة هي المدخل الحقيقي النافذ مباشرة إلى لب شخصه وأدبه ، وقد عبر عنه كثيرا في كل ما كتب ، هذه المحبة التي تعانق الجميل والجليل ، وتعانق الهواء والإنسان والسماء .
والواقع أن أعمال الطيب صالح تفيض بالعشق الصوفي وبالمحبة ، ويبدو أن الطيب صالح من اسمه نصيبا ؛ فهو ” الطيب ” و ” الصالح ” السمح . كل أعماله الإبداعية تدل على أريحيته وطيبته وصلاحه وعمق إيمانه ، شأنه في ذلك شأن أبطاله وشخوصه الروائية ( الزين ) وغيره ، وخلقه أشبه بخلق أولياء الله الصالحين ؛ ففيه من تصوف ابن عربي وحذق الغزالي الشيء الكثير .
إن غربة الطيب صالح عن سودانه عمقت شعوره بالانتماء إليه ، فزاد التصاقا حميما بجلده وغار أعمق فأعمق في دكنة بشرته . كما منحته الغربة المسافة الكافية لإعادة استقراء دقائق الحياة على أرضه في شمال السودان ، وكرمز لكل السودان بعطائها الخير وناسيها الطيبين ، وعبر موازنة مرهفة ما بين طبيعة هذه الحياة وأبطالها ، وطبيعة الأرض التي يعيشون على ظهرانيها ، وكأن كلا منهما يكمل صورة الآخر . في ” عرس الزين ” ليحدثنا فيها ” انفتاح صدر النيل ” ، و ” الليالي المقمرة ” ، ورائحة الخصوبة ونقيق الضفادع ، إلى جانب أفراح القرية وزغاريد الأعراس التي تسمع من مسافة ميلين منها ، لينتهي من هذه المقاطع النصية بشاعرية أخاذة إلى إيجاز تلك العلاقة بين طبيعتين جغرافيتين ، يستمر بهما عطاء الأرض الدائم وعطاء المرأة الدائم ، وتستمر بعطائها الحياة .
واعتبار لهذه المحاسن والفضائل التي امتاز بها الطيب صالح ، يمكن أن نعتبره بحق أنه هذية الجنوب إلى الشمال ، هدية السودان بكل أصالته وعمقه وتراثه وامتداده في قلب القارة الإفريقية إلى الوطن العربي بأكمله . فالإنسان العربي في السودان ، هو جوهر ما تلتقطه أعماله في البداية ، بكل غليانها الفكري . لكنها تطرحه على العالم وتحتك به مع الإنسان الآخر ، والأفق الآخر ، والثقافة الأخرى ، حتى تتولد تلك الشرارة التي تجعل أعماله نقلة حقيقية في الرواية العربية . إن أعمال الطيب صالح من ( موسم الهجرة إلى الشمال ) ، مرورا ( ببندر شاه ضو البيت ) إلى ( عرس الزين ) ، إلى أخر أعماله ( المنسي ) ، وتجربته الجمالية أشبه بسمفونيات متناغمة . فلكل واحدة منها وكل جزء منها له سحره وجماله ، إنها تمنح متعة روحية وفكرية في معناها العام . لقد نسجها الطيب صالح في إيقاع سوداني إفريقي عربي ، وفي هذا الإيقاع المحلي القومي ، استطاع الطيب صالح أن يكتب أدبا إنسانيا عالميا ، يمكن لأي إنسان أن يقرأه في أي مكان من الأرض .
لقد استطاع الطيب صالح في أن يخلق بأعماله سلسلة من العوالم الروائية الحية المشرقة ، عوالم حملت للقراء عربا وغير عرب ، وبأعلى مستويات الرمز في الأسطورة ، من حيث انعكاس للوعي القومي أو الوعي الإقليمي ، رؤية بالغة الخصوصية لتأثيرات عملية التغيير الدائمة العنيدة في ثقافات إفريقيا ، وفي أي مكان آخر بفعل التسرب والامتداد . لقد استطاع الطيب صالح بمثل هذا الاتصال والتواصل بين أعماله الروائية المختلفة ، أن يكشف عما تتمتع به أجناس القص المتنوعة من ثراء وغنى ، وكيف أنها تتطابق بطرائقها المختلفة مع طبيعة المجتمع الذي يعايشه ويعشق . كما استطاع من خلال هذه الأعمال أيضا استكناه إشكاليات الصدام الحضاري ، وتفكيك خطاب الاستعمار وما بعد الاستعمار .
لقد حاول الطيب صالح في إبداعه الكتابي أن يقوم بعملية استكشاف لعالم وهمي ولواقعية سحرية ، مكونة من تفاصيل تمثل ملامح سودانية ، هي ملامح اكتشاف لوضعنا في الماضي والحاضر والمستقبل . إننا نعيش في عالم متغير دائما ، وفي تشبثنا بالحضارة الحديثة نستفيد كثيرا ، ولكن تضيع منا أشياء كثيرة وجميلة . إن طرائق الطيب صالح في السرد غير التقليدي ومزجه بين الواقع الماثل والأسطورة والخرافة والتصوف في سياقات وأزمنة مختلفة ومتداخلة ، واستشراف مضامين متنوعة ومتجددة وغير مسبوقة ، والتعبير عن كل ذلك في لغة شاعرية أنيقة مترعة بالإيقاعات والأنغام الداخلية ، يضعه موضعا متميزا في خريطة الرواية العربية المعاصرة .
كتب الطيب صالح روايته ” عرس الزين ” قبل ” موسم الهجرة إلى الشمال ” بأعوام قليلة ، ولكن الرواية لم تلفت الانتباه إليها ، وكان عليها أن تنتظر إلى أن تصدر ” موسم الهجرة ” وتقيم الدنيا ولا تقعدها ، وتستقطب الانتباه إلى صاحبها الذي نعته البعض بأنه ” عبقري الرواية العربية الحديثة ” . فعلا قد كانت حدثا استثنائيا في تاريخ الرواية العربية ، وانطلاقا في آفاق جسورة لإنطاق المسكوت عنه في الثقافة العربية التي لا تزال تقليدية في مجملها . فموسم الهجرة واية بعيدة عن التقليد أو التصنع أو التزمت أو الخوف ، فالجسارة الكتابية التي تنطوي عليها فتحت لها قلوب وعقول القراء المتعطشين إلى عوالم جديدة ، والمتلهفين على من يقتحم المناطق التي ظلت مغلقة ، لم تجد من يفتحها إلا أمثال ” موسم الهجرة ” ، التي تظل رواية كاشفة عن كثير مما لم تكن الرواية العربية تعودت الكشف عنه .
لقد طرحت ” موسم الهجرة ” قضايا الهوية والعلاقة بالآخر والأصالة والمعاصرة ومكانة المرأة على نحو صريح . ونعتقد أن هذه الصراحة بالإضافة إلى أهمية وحيوية القضايا التي طرحتها ؛ هي المسئولة أولا عن الإعجاب الاستثنائي الذي لقيته هذه الرواية ، التي أنتجت في رد الفعل عليها عشرات من المقالات والدراسات على امتداد الوطن العربي . وظلت الرواية منطوية على نوع مغاير من الفتنة التي لا تزال تجذب إليها اهتمامات النقاد . ولا تزال الرواية تستقطب الاتجاهات والتيارات النقدية المتجددة ، التي تريد تأكيد حضورها بالكشف عن جوانب جديدة من الدلالات التي لم تكشفها الاتجاهات والتيارات السابقة . وكما انضمت نظريات التحليل النفسي الحديثة إلى غيرها من النظريات في تحليل الشخصيات المركبة في الرواية .
وقليلة هي الأعمال الروائية النادرة ، التي استأثرت بعناية القراء والنقاد العرب ، مثل العناية برواية الطيب صالح ” موسم الهجرة إلى الشمال ” . فقد أديرت حولها أبحاث ، ومقالات ، ودراسات . تناولت بعض جوانبها الفكرية والفنية ، وما يستجيب له التأويل القريب والبعيد ، لدلالات رموزها وألوان صورها وأساطيرها ، وما توفقت إليه من رسم مثير لعلاقة الشرق بالغرب ، عبر غمرات التجربة والصراع والعنف . ومن خلال مواجهة تحكمت فيها رواسب الزمن والحضارة ، ونوازع الكبت والحرمان ، وعقد الأنانية والتسلط . ورغم أن هذه الدراسات تنوعت في مناهجها وأساليبها وأغراضها كذلك ، فإنها في جوهرها تؤكد جقيقة تكاد تكون واحدة . هي أن هذه الرواية وتلك الروايات الأخرى من أعمال الطيب صالح ؛ نمط جديد في كتابة الرواية العربية ، وإن صاحبها أنجز عمله دون أن يتقيد بقالب فني معروف . لذلك فهو يضع اللبنة الأولى ، لبناء روائي عربي جديد ، تحرر من تبعية التقليد لفن الرواية الأوروبية ، مع الاستئناس في الوقت ذاته بآخر منجزات نظرية الغرب .
فأعمال الطيب صالح ، من النوع الذي يؤرخ لتلك المرحلة الدقيقة الممتدة على عدد من بلدان الشرق العربي وإفريقيا الشمالية ، وإفريقيا / الاستعمار ، وتستغرق عقودا . وعنوان الرواية يشي إلى حد كبير بمضمونها وسيرورتها الخيطية المزدوجة زمانيا ومكانيا ، فالزمن فيها يسير باتجاه الأمام ، وإن تجلى مرتدا في كثير من الارتجاعات ، التي تدهم الشخصية المركزية بين الفترة والأخرى ، والتحرك بين الأمكنة يبدأ من السوان إلى القاهرة فإلى الغرب / إنجلترا ، وتنتهي في حدود البلد الذي ينتهي إليه مصطفى سعيد / قرية بالسودان . ولا شك في أن نسيج الرواية يتمحور حول إشكالية وسردية الآخر وصراع / الشرق / الغرب .
كما أنه في الوقت ذاته يرسخ الفكرة الذاعبة إلى أن أوضاع الدول في العالم الثالث ، وخصوصا الدول النفطية تصنعها الإدارات السياسية الغربية ومصالح الشركات الكبرى ، مهما كان الفعل الذاتي لهذه الدول متفجرا ، ومتمتعا بما يدل على حصرية انبثاقه من ظروف البلد الداخلية . فالشخصيات المحلية ، شخصيات فاعلة روائيا ، وتتمتع فاعليها الروائية بإمكانية التحقق الواقعي ، ولكنها مقرونة إلى سواها من الشخصيات الغربية المتمتعة بفاعلية أقوى .
وتتحق تلك التمثيلات للحصور ، في كون حضور سعيد والنساء الأوربيات يتوازى مع حضور وتابعا للدور الذي تلعبه الدول المستضعفة / واقعيا في رسم أوضاعها وتقرير مصيرها . وربما كانت علاقة مصطفى سعيد مع نساء الغرب شكلا من التكثيف الفني للعلاقة الاستعمارية بين بريطانيا والاستعمارية والعالم العربي / الإفريقي . ويستدعي بشكل إلى الذهن حالة الدولة الاستعمارية التي تعميها قوتها ، وجشعها ، وتاريخ أجهزتها في العدوان والبطش ، عن أي اعتبار يمكن أن يحول دون قهر الدول الضعيفة ونهبها .
أما بالنسبة لعلاقة الشخصيات الغربية بالشخصيات الشرقية ، فهي تتم عبر البطل / المحوري مصطفى سعيد والمحيطة به ، لتؤكد محوريته من جانب ، ولكي تحكم تطويق الشرقيين من جانب آخر ، عبر تضييق حيز حركاتهم وجعلها محكومة بالسير ضمن اتجاه إجباري وحيد . أما فيما يتعلق بملامحه النفسية والفكرية العاكسة لأحد الجوانب المهمة في التصوير المتبادل بين الغرب والشرق ، خلال المرحلة الاستعمارية الجديدة ، أي مرحلة الاستعمار النفطي والغزو الثقافي ، وجعلها سوقا للنفايات وللسلع الاستهلاكية .
فقد نجحت الرواية في تصوير ذلك ضمن عدد كبير من التفاصيل والجزئيات ، إذ استأثر وصف الشرق وانتقاده بعين المستعمر الأوروبي . كما يبرز في الرواية الاستعمار الجديد ؛ من خلال المعاملات السياسية والسياسيين ، والمفاوضين الذين حلوا محل القادة العسكريين ، وحلوا محل الجيوش الجرارة لفرض الأنظمة السياسية على الدول التابعة ، أو فرض تغييرها ، ورسم سياساتها وأوضاعها داخليا وخارجيا .
والطيب صالح وهو يخوض في جوهر ذلك الصراع ، يعتبر التحليل لعلاقة الشرق والغرب قائما على الاعتبارات الذاتية ، وعلى المغالطة والزيف ، وعلى اعتبارات أبعد ما تكون عن تلك العلاقة ، وأعجز ما يكشف عن حقيقتها . لأن المقارب لها أو المحللل لدواخلها وتعقداتها ، إنما يخفي منها العلاقة الاستعمارية ، إذا كان المحلل مستعمرا ، ويغلق علاقة القهر والذل والخنوع بعلاقة الانتقام والثأر إذا كان مستعمرا . والطيب صالح يلخص المحطات الكبرى لتلك العلاقة ويعبر عنها تعبيرا أسطوريا ورمزيا محيرا ، أو تعبيرا تراثيا وأدبيا وشعريا ، يجمع بين لذة القديم ولذة الحديث . ويؤلف بين الصور المتناقضة في الظاهر والمتناغمة في الباطن ، وهو إلى ذلك يفتح النص الروائي العربي الحديث على حقب وأزمنة مختلفة ، وعلى روافد مرجعية متنوعة . وإذا النص الكلاسيكي يعانق النص الحداثي عبر العصور ، وإذا النص الشعري متوتر توترا أسطوريا صوفيا .
ويبدو لدى الطيب صالح الرافد الإفريقي مجانسا للرافد العربي متجانسا معه ، حتى أنه من الصعب التمييز أو الفصل بينهما ، بل إنه من الصعب أن نبين نوعية التمازج بين الرافدين . لأن الطيب صالح نفسه لا يكاد يميز بين الاثنين ، وهو ما جعل طريقته في الكتابة الروائية تستند في العمق إلى تقاليد روائية ، أو لنقل إلى تقاليد حكائية شفاهية عميقة . تجعل السرد مترسخا قبل كل شيء في نوع من الممارسة ؛ ابتداء من التعبير المباشر المسطح الفج إلى التجربة المتقنة . ويعود ذلك بالأساس إلى أن الأدب الروائي عنده ، لم يكن غريبا عن التراث الحافل بالسير الشعبية والحكايات الخيالية والأساطير .
بل الأكثر من ذلك هو أن الطيب صالح ، حتى وهو يستحضر المقومات الغربية الروائية ، فهو يطبعها بالطابع المحلي السوداني والإفريقي والعربي ، أو الطابع المحلي السوداني والإفريقي . وقد تخلط الأصوات الإفريقية والعربية والسودانية لدى الطيب صالح ، وتتقاطع وتتعقد وتتمازج تمازجا وتعقدا عجيبين . فإذا المشهد الأوروبي يتجلى تجليا إفريقيا أو عربيا والعكس بالعكس ، وإذا الرواية عل حداثتها وعلى حداثة موضوعها وإشكاليتها تبقى قصة ، أو حكاية هاربة صميمية ، متغربة في المكان والزمان ، أو هي قصة المكان والزمان العربي الأوروبي المتغربين فيها .
أدى التمثيل السردي التخييلي في الإبداع الكتابي لدى الطيب صالح ؛ وظيفة تمثيلية شديدة الأهمية في العمل الروائي . وهو يقوم بتركيب المادة التخييلية ، وينظم العلاقة بينها وبين المرجعيات الثقافية والوقائعية ، بما يجعلها تندرج في علاقة مزدوجة مع مرجعياتها وبخاصة الأحداث ، والشخصيات ، والخلفيات الزمنية ، والفضائيات . فهو يركب ، ويعيد تركيب ، سلسلة متداخلة من عناصر البناء الفني ، ليجعل منها المادة الحكائية التي تتجلى في تضاعيفه
.
فالتعدد الداخلي لمكونات الحكاية وانفتاحها على فضاءات ثقافية ، ينقل الرواية من كونها مدونة نصية شبه مغلقة ؛ إلى خطاب تعددي منشبك بالمؤثرات الثقافية الحاضنة له . ومن هنا انخرطت أعمال الطيب صالح في الجدل لخاص بالهويات الثقافية والحضارية ، الأمر الذي أفضى إلى ظهور عوالم متعددة بقيمها ، وتصوراتها ، ومواقفها . وبذلك قامت أعماله الروائية بتمثيل ثنائيات : الأنا والآخر ، وكل ذلك أسهم في إثراء البنية الدلالية وتعدد مستوياتها .
يقوم السرد في عالم الطيب صالح الكتابي الإبداعي بمهمة تثير التوتر الثقافي بين الشرق والغرب ، بأسلوب رمزي ، يعيد إلى المتلقي التعارض بين قطبين حضاريين ، وينخرط في تمثيل مجازي لهذا التناقض من خلال استحداث الشخصيات ، ورؤى تنتمي إلى طرفي التناقض المذكور .
ومن أجل بلورة هذه الفكرة يلجأ العمل الروائي إلى تقنيات سردية كثيرة ، لتجسيد هذا الموضوع أو ذاك ، الذي ظل أحد شواغل الرواية العربية منذ نشأتها الأولى . لكن الطيب صالح يضفي على الموضوع طابعا مأساويا ؛ حينما يغلف العلاقة بين الرموز الحضارية بالعنف ، والشبق ، والموت . فتتخطى الشخصيات محتواها النصي المباشر تصل بمجالات الصراع والتوتر بين الشرق والغرب ، بين المستعمر والمستعمر . يجري كل ذلك داخل إطار سردي تتوازى فيه الحكايات ، وتتعدد فيه أصوات الراوي ، طبقات النصوص وفواصل ومفاصل الفصوص والمقاطع الروائية .
وإذا كان الطيب صالح قد كتب بعض رواياته في وقت متقدم من هذا الاحتكاك بين الشرق والغرب ، الذي هو أقرب إلى الاكتشاف والذهول من هذا الآخر المختلف ، فإن جسور التقارب قد قللت المسافة بين الأنا والآخر وقلص المسافة وأذاب الكثير من الجليد ، وأصبح التعايش ضروريا فرضته طبيعة الحياة ومستلزماتها ؛ القائمة على الشراكة والحوار ، الذي يؤدي إلى التفاهم وبالتالي معرفة الآخر والتعاون معه .
والحوار لا يعني به الجدل والتناظر بقدر ما يعني به الحوار ، الذي يؤدي إلى معرفة الآخر والتفاهم معه أو على الأقل احترام وجهة نظره المختلفة وهويته المغايرة . ” لأن الاختلاف بين البشر لا يؤدي حتما إلى العدواة ” ، يقدر ما يؤدي إلى الثراء والتنوع والتعدد وتلك سنة الله في خلقه ، وقد آن الأوان أن تتقارب الشعوب وأن تتصل وتتفاهم . وهذا تحصيل حاصل فرضته وسائل الاتصال السريعة وطبيعة ” العولمة ” ، التي ربطت بين القارات في دول واحدة وفضاء واحد .
وأعمال الطيب صالح الروائية تعد أكثر نضجا وأقوى بناء ، لأن التفاعل الثقافي في ذلك الزمن قد عمل عمله ، واستطاع أن يشكل إفرازا جديدا ، ومتناسلا للتحولات الاجتماعية ، التي ساهمت في معرفة الذات من خلال معرفة الآخر . هذا ما جعل أعمال الطيب صالح الإبداعية تخرج عن البنية السطحية المباشرة ، لتلمس العمق وتتكثف دلالاتها ورمزيتها . كما تميز الطيب صالح خلافا لزملائه كتاب الرواية العربية بالانتقاء اليقظ لزاوية الالتقاط ، والتعبير اليقظ عن مادة الالتقاط . لذلك تتجلى المفارقة واضحة هذه المفارقة التي تقول ؛ أن تفاعل الثقافات وتعددها وتلاقيها ، هو قوى للثقافة وخدمة لها تخصيبا لنسيجها وتعددا لمعارفها واتجاهاتها ، أما الثقافة التي تضرب على وتر واحد فمآلها الموت والفناء .
يمكن أن نعتبر سيرة وحياة الروائي الطيب صالح ومكونات حياته الثقافية والاجتماعية مرجعا هما من مرجعيات كونه وعالمه الإبداعي . هذه الحياة بزخمها وثرائها وروحها وروحانبتها ، وتعدد مناهلها ومشاربها ، كل ذلك انعكس على أعماله الإبداعية ، وشكل رؤيته الجمالية وذائقته الفنية ورؤياه النقدية . فأعمال الطيب صالح تكاد تنسل وتستل من شحصيته وحياته وتجاربه .
فالرجل الطيب صالح نشأ نشأة ريفية بإحدى قرى مركز مروى ، فهو يصور الريف وقرية ( مروى ) في كتاباته . ووالديه ريفيين متوسطي الحال ، فقد جسد حياة شريحة البسطاء من الناس . وأبوه شيخا طيبا وقورا دينا ، يؤمن بأولياء الله ، ويعتقد في شيوخ الصوفية ، ويزور ضريح الشيخ ” الطيب ” في قريتهم ، وقد سمى ابنه على اسم ذلك الشيخ تبركا . ونجد الولاية والصوفية والمشيخة حاضرة ناظرة في أعمال الطيب صالح .
ومسرح أعمال الطيب صالح قرى ومركز ” مروى ” بالمديرية الشمالية ، فبها نفح تلك القرى وطابعها وبيئتها بنخيلها وشجرها وسواقيها ، وأهلها الطيبون المؤمنون المحافظون الكادحون . الذين يعملون بالزراعة على أصوات النواعير والشواديف ، في زراعة الجروف والحقول على شواطئ النيل ، الذي ينزل من نفوسهم منزلة / القديس .
ويظهر اللون الحلي ، وصبغ البيئة بوضوح في هذه الأعمال ؛ لا في موضوع الرواية ، ولا في الجو والبيئة فحسب ، بل في مضمونها والأفكار التي تدور فيها . وتسري بين سطورها والحوار الذي يجري على ألسنة الناس وشخصياتها ، والعقائد والتقاليد ، واللغة التي يستخدم فيها الكاتب بعض الألفاظ العامية ، يطعم بها أسلوبه الفصيح ، ويلتزم أن ةتمثل البيئة الشمالية بلهجة أهلها التي تتميز ببعض الصفات ، وتختلف عن لهجة أهل الخرطوم وغيرهم من مديريات السودان الشمالي .
ويخلص الكاتب لوطنه في غربته بلندن ، ويخلق لنفسه في ذلك البلد البعيد الغريب من خياله جوا يعيش فيه بوجدانه ، يستعيد فيه ذكريات الصبا ومختزن حياته في ” مروى ” . ومن دلائل إخلاصه نقل صور القرية من الواقع المعيش إلى الواقع المتخيل ، إلى جو النقاء والصفا . قد يبالغ الكاتب فيحيلها صورا مثالية وردية ، ويرى فيها كل شيء جميلا ، حتى أنه يذهب مع عشيرته فيما يذهبون إليه من عقائد متخلفة ، وعادات بالية . وتحس وكأنه يؤمن بها ويعتقد فيها ، بل ويبدو وكأنه يريد أن يقنع القارئ بصحتها وسلامته . أخص ما يظهر لنا من قصص رواياته وأعماله إيمانه ببعض العقائد الدينية ، وما ركز في قلوب عشيرته ووجدانهم من ولاء للطائفة ( الميرغينية ) وإيمان بشيوخها ، وشيوخ الدين من رجال الصوفية ، من مات منهم ومن ينتظر وظل على قيد الحياة .
وهو حين يبرز هذا الجانب من الحياة في قريته ، إنما يصدر عن رد فعل الغربة في نفسه ، وأثر الحياة المادية المسرفة في ماديتها بلندن على كيانه المعنوي ، وكأنه يمل هذه الحياة الجديدة ، ويحن بروحه إلى حياة قريته الروحية . يفتح لنفسه باب فيه الرحمة للخلاص من قيود المادية . وفي شخصية ” الحنين ” الصوفي / السائح المتجول ، و” الزين ” بطل روايته ” عرس الزين ” ، وهو الدرويش طيب القلب ، ينكشف هذا الجانب الروحي الذي أشرنا إليه فيما يعتقده الناس ، وما يسيطر على أذهانهم من المنعتقدات والأساطير الدينية .
انعكست جياة ” الطيب ” في بيئته الريفية / شمال السودان ، وفي أم درمان والخرطوم ، وفي لندن نبعا ثرا لرواياته وقصصه . واستأثرت ذكريات طفولته وصباه في قريته بالجانب الأكبر من أعماله ؛ فكان ما اختزنه من بلده ووطنه وموطنه موردا ومنهلا ، يملي منه قلمه في غربته بلندن ، حيث كتب معظم إنتاجه ، وبعث به إلى الصحف والمجلات العربية .
ودعم هذا المورد العذب الأساسي قراءات متنوعة في الأدب الإنجليزي لكبار الكتاب والشعراء . لم يكن يجاري الاتجاه الواقعي في سماته وموضوعاته ، بل ربما عارضه وناقضه ، واتجه إلى الرمز . وهو يؤمن بالصنعة في الفن : صانع أساليب فنية ، وصانع أفكار ، وصانع أساطير ، ومعاني من الرؤى والصور والتصوف . ولا يحب الالتزام بمذهب بعينه في الحياة أو الفن ، ويرى الالتزام الوحيد الذي يتمسك به ويخلص له ؛ هو المثل العليا في الحياة ، والحق ، والعدل ، والجمال .
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.