تعد القدس الشريف بخاصة من أكثر المناطق التي تضم الكثير من الأماكن الدينية المقدسة للمسلمين . إذ تشمل أماكن دينية هامة ، ففيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة ، والمسجد الإبراهيمي في الخليل . كما تنتشر في قراها الكثير من المقامات والمزارات والأضرحة ، وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين . وتعد القدس جزءا من العقيدة الإسلامية ، فهي الذاكرة الحية للمسلمين ، وتحتل مكانة هامة من عقيدتهم . وتؤكد هذه المكانة العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، التي تبين مكانتها الدينية وفضائلها . فالقدس مدينة الرسل والأنبياء ، وهي المكان الذي أسري بالرسول عليه الصلاة والسلام إليه ، ومنها معراجه . كما أنها القبلة الأولى للمسلمين ، وفيها المسجد الأقصى ثالث الحرمين ، وهي الأرض المباركة ، وأرض المحشر والنشر .
ويزيد من هذه المكانة الفضائل التي تحدثت عنها الأحاديث النبوية ، منها فضل زيارتها والإقامة فيها ، وفضل الإهلال بالحج والعمرة منها ، وفضل الصلاة والصيام والصدقة والآذان والدفن فيها ؛ وغيرها من الفضائل التي كتب الرحلة والتراث ، وكتب فضائل بيت المقدس . لذا انتقل إليها عدد من الصحابة للإقامة والسكن فيها ، وزارها العلماء والفقهاء والأئمة والمحدثون . ومن هنا غدت مدينة القدس محجا للعديد من الرحالة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ولا سيما مشائخ العلم والمتصوفة منهم ، الذين وفدوا إليها للتبرك ، نظرا لمكانتها الدينية ، وزيارة ما فيها من أماكن ومشاهد دينية . ولعل من أبرز هؤلاء الرحالة الذين شدوا إليها الرحلة ، رحالة الغرب الإسلامي : أندلسيين ، ومغاربة الأقصى إلى المسجد الأقصى ، ومغاربة الأوسط والأدنى .
وقدمت الأعمال الفنية واللوحات التشكيلية ، التي تناولت ( القدس ) ، صور للحياة اليومية للرحالة الغربيين والرسامين السكان في الأراضي المقدسة : حجاج متحلقون حول الصخرة المقدسة تحت القبة الصخرة ، وعابرون بثياب تقليدية شرقية في أزقة المدينة العتيقة ، ورعاة بماشيتهم حول عيون المياه ، ونساء يحملن أطفالهن يهبطن أدراج المدينة ، وقوافل تصل تخوم المدينة وأخرى تغادرها .
كانت رحلات الغربيين إلى القدس ، أو زوار بيت المقدس ، أغزر من سواها علما وثراء بالمعلومات ، عن ما وصل إليه العالم الإسلامي ، أو بلاد الشام وفلسطين والقدس ، من حيث النمو العقلي والرقي الاجتماعي . كما أن هذه الرحلات تصور العلاقات بين المفادسة ، والزوار الغربين والمقيمين من المسيحيين . وبهذه الطريقة أحرز الرحالة الغربيين على خبرة تامة من البلدان التي يمرون بها وهم في طريقهم إلى القدس . كما أنهم اطلعوا على أحوال ودواخل المجتمع المقدسي . كان الرحالة والفرسان والزوار والحجاج إلى القدس ، في عودتهم لديارهم في الغرب ( أوروبا وأمريكا ) ، بعد تأديتهم فريضة الحج والزيارة ، ينقلون لأبناء جنسهم جميع ما اطلعوا عليه في الشرق / القدس . وهي صورة من أعظم الصور لإثارة حب الاطلاع وتوسيع النطاق العقلي في العالم المسيحي .
القدس مدينة ذات تاريخ تليد ، يجللها طبقة فوق طبقة ، ويتجلى في مستويات آثارية ، ويمتد أكثر من عشر حقب تاريخية رئيسية . والقدس ذات تاريخ موغل في القدم ، ظلت مسرحا للمشاعر الجياشة والنزاعات المريرة . في القدس يشتغل الرحالة الغربي باستمرار لأغراض عديدة ، ونظرا لأهميتها بالنسبة لإرث الأديان الإبراهيمية السماوية الثلاثة ، فقد دثرت القدس الأساطير المحركة للنفوس والمعتقدات الدينية الراسخة ، والاشتياقات العارمة . وقد كان لهذا الإرث أبعاد تاريخية ، ومظاهر طوباوية في آن معا .
وثمة رؤيتان اعتمدها الرحالة ؛ سواء الغربيين أو المغاربة في عرض صورهم عن القدس : عرض أفقي للصورة ، يحاول أن يشمل بنظرة واحدة ، كافة الظواهر والأنشطة ، فيمسها مسا خفيفا بنوع من الوصف الخارجي السريع ، الذي يعطي الملامح العامة البارزة على السطح ، ولا يكاد يتوغل إلى الأعماق للبحث عن التفاصيل والجذور . بينما تقوم الرؤية الثانية على التوغل إلى الأعماق أو العمودي . في هذه الظاهرة أو تلك ، وعبر الصورة ، ومن خلال هذا النشاط أو ذاك . تم تقديم من قبل الرحالة المغاربي أو الغربي مادة غزيرة ورؤية أكثر نفاذا وتمثلا وتصويرا .
والرؤيتان في تشكيل الصورة عن القدس ، في عمومهما ، تكمل إحداهما الأخرى ، وكلتاهما عون للدارس المقارني المعاصر ، الذي يسعى إلى استخراج صورة القدس الشريف ، من بطون هذه الرحلات والمصادر ، تتميز بالامتداد والعمق في الوقت نفسه . ومع ذلك فإن هناك الكثير من الثغرات ، تركت عبر هذه الرحلات المصادر دون سعي جاد لسدها . وهناك مساحات واسعة في هذا الجانب في تشكيل الصورة البانورما عن القدس ، تبقى تنتظر عمن يلقي عليها ضوءا .
ومن ذلك كانت محاولتنا ، تقوم على تجاوز الوصف السطحي السهل للمدينة المقدسة ، إلى الغور في الأعماق ، ومعالجة أمر المدينة الثقافي أو الممارسة الدينية ، أو النشاط العلمي . ومن ثم رأينا متابعة الرحلات ، وهي تصف قطاعات الحياة في المدينة المقدسة ( القدس الشريف ) ، على امتداد العمران والآثار والناس ، من أجل منحها حياة أكثر تدفقا وغنى ، ومن أجل تكوين صورة عن المدينة ( القدس ) أكثر أصالة وامتدادا روحيا ، وأقدر إفصاحا شخصية المدينة ( القدس ) ، أم الحواضر في الماضي والحاضر ، والتركيز على ما هو أكثر ديمومة وخلودا وحضورا في الذاكرة .
إن الرحالة المغاربي ، وهو يدخل القدس يجد محرابا دينيا كبيرا توالت على أرضيته نبوات السماء الكبرى ، ووقف في ساحته الكبرى المباركة أنبياء الله جمعا عليهم السلام يصلون يوم الإسراء ، وراءهم خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام . عن الرحالة المغاربي القادم من أقصى المعمورة إلى المسجد الأقصى ، يرى المواقع والرؤى والمشاهد ، ويتلمس الذكريات العزيزة التي طال شوقه إليها .
أما الرحالة الغربي الأوروبي الأمريكي ، القادم من صقيع وبرودة المادة وحمى الاستهلاك ، ها هو يرحل ويدخل في قلب التجربة وحرارة الإيمان . وجل اهتمامه سينصب على بؤرة واحدة : تراث الأديان العريق . ومن ثم فإنه في رحلته مستعد أن يمنحنا ، ليس فقط الملامح الكلية والقسمات العامة لمعطيات هذا التراث ، بل أن يتجاوزها صوب الدقائق والتفاصيل ، فيحدثنا عن انحناءات الأحرف وتعاريج الكتابة ، وتناظر الزوايا ، وألوان الصخور . في الرحلات المغاربية والغربية ، تبرز القدس في قلب الزائر ، مدينة في القلب من العالم ، تتربع على مكان عال ، فكأنها بذلك تنادي الرحالة والزائرين ، وتفتح صدرها .
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.