تعاني الدول النامية عامة مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية معقدة، وتواجه تحديات كبيرة تُبطّئ حركتها نحو التنمية والتصنيع واللحاق بركب العصر، كما أن المعونات والقروض التي قدمها البنك الدولي والمؤسسات الدولية المعنية بالتنمية لم تُفلح في تحقيق أهدافها المنشودة؛ إذ لم تستطع تلك الأموال التي تقدَّر بمئات المليارات من الدولارات تغييرَ الهياكل الاقتصادية وتحسينَ أداء الاقتصادات الوطنية بشكل يجعلها قادرة على النموّ الذاتي، وفي الواقع، بعد نحو سبعين سنة من العمل في العالم الثالث، لم يستطع البنك الدولي مساعدة دولةٍ واحدة على تحقيق التنمية، وبالتالي ليس لديه قصة نجاح واحدة يمكن تقليدها والاستفادة منها. من ناحية ثانية، جاءت سياسات الهيكلة الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين لتنقل العديدَ من الدول النامية من حالة سيئة إلى حالةٍ أسوأ! اتصفت بزيادة حِدة الفقر، وتوسعة فجوتَي الدخْل والثروة بين الفقراء والأثرياء، ورفع معدّلات البطالة، وشُيوع الفساد، وبيع الكثير من ثرَوات البلاد لشركاتٍ أجنبية
ليس هناك شكٌّ في أن المعونات والقروض الدولية ساعدت على استقرار الأوضاع المعيشية في العديد من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وحالتْ دونَ تدهور الأمور بشكل أكبر،لكن مع ذلك، تشير التقارير إلى أن تلك الأموال ساعدت أثرياءَ الدول النامية وحُكَّامَها أكثر بكثير مما ساعدت الفقراء، وعلى سبيل المثال، حصل الأغنى 20% من سكان العالم في عام 2011 على نحو ثلاثة أرباع الدخل العالمي، فيما حصل الأفقر 40% على 5% فقط من ذلك الدخل. وفيما يبلغ نصيب الأغنى 20% من سُكان العالم 77% من مجموع الاستهلاك العالمي للغذاء والطاقة، يبلغ نصيب الأفقر 20% من السُّكان 1.5% فقط. .(www.globalissues.org) كما تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من 1400 مليون في العالم كانوا يعيشون في عام 2005 على دولار وربع الدولار ،أو أقل، في اليوم، وأن نحو ثلاثة بلايين إنسان كانوا يعيشون على دولارين ،أو أقل، في اليوم.(World Bank Development Indicators, 2008) وبسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت في أواخر عام 2007، ارتفعت أعدادُ الفقراء بنحو 150 مليون شخص فيما بين عامي 2005 و 2010، ما جعل اليأس والإحباط يغزوان بيوت مئات الملايين من البشر في كل أنحاء المعمورة، بما في ذلك الدولُ الصناعية الغنية
وفيما أخفقت المعونات والقروض الدولية في تحقيق تنمية اقتصادية، فقد أثبتت نظريات التنمية المختلفة عدمَ قدرتها على تفسير التخلف وتحديد أسبابه وأبعاده بدقة، وبالتالي كيفية الخروج منه. وهذا يعني أن الفرضيات التي قامت عليها تلك النظريات كانت إما خاطئة أو ناقصة، الأمر الذي جعل السياسات التنموية المنبثقة عنها تخفق في تحقيق أهدافها، إن الدولَ النامية والفقيرة تواجهُ مشكلات سياسية وثقافية واجتماعية لم تأخُذها نظريات التنمية القديمة في الحُسبان، ما يخلق حاجة لنظريات جديدة تنظر إلى المجتمع بوصفهِ وحدة متكاملة، تعترف بتأثير الثقافة في الاقتصاد، وتأثير الاقتصاد في الثقافة
في ضوء هذا التشخيص المبسط، يطرح كتاب “التنمية المُستدامة” نظرية تنموية تقوم على تحديد العقبات التي تعيق مسيرة المجتمعات النامية نحو التقدم، ورسم خريطة طريق لتجاوزها. ومع إدراكنا الواعي أن العقبات المعنية كثيرة ومتشابكة، وأنها تختلف من مجتمع لآخر، فإنَّ أغلبها يعود إلى عوامل ثقافية واجتماعية، ما يجعل النظرية التي نحن بصدد عرضها تركز على القضايا الثقافية أكثر من غيرها. إلا أن هذا لا يعني أن قيام مجتمع بإعادة هيكلة بُنيته الثقافية والاجتماعية سيكون كافياً لإحداث تنمية ونهضة، إن التنمية التي نتحدث عنها هي تنمية مجتمعية شاملة تحتاج إلى إعادة هيكلة اقتصادية، وإحداث تحولات اجتماعية وثقافية واسعة وعميقة، لأن هناك علاقة جدليةً بين الاقتصاد والثقافة تجعلُ من الصعب تطوير أيِّ طرف من دون تطوير الطرفِ الآخر
إن بناء نظريات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية يعني التعميم، علماً أن التعميم لا يكون مناسباً في الكثير من الحالات، لأن ظروف كل مجتمع وتجربته الحياتية تختلف عن غيره من مجتمعات أخرى، إلا أن كون جميع شعوب العالم الثالث تعيش في حضارة الزراعة وتنتمي إلى ثقافتها ذات المواقف المتقاربة من العمل والوقت والكسبِ المادي والبيئة، يجعل من الممكن التعميم. إن كل الثقافات التي تُفرزها حضارة واحدة مثل حضارة الزراعة، تكون متشابهة من حيث التقاليدُ والقيم والمواقف، ما يجعلها تقومُ بأدوار متشابهة في حياة الشعوب التي تنتمي إليها. وسنقوم بشرح هذه النظرية بالتفصيل في الفصل الأول من هذا الكتاب الذي نأمل أن يُسهم بما فيه من أفكار جديدة ومقترحات عملية في تفسير قضايا التخلف، والمساعدة على تجاوزها، وتحقيق تنمية مجتمعية عربية شاملة ومستدامة
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.