يمكن أن نقرر إن الجغرافيا لم تعد ذلك العلم الذي يهتم بوصف الظاهرات الطبيعية والبشرية بعيدا عن الواقع. بل أصبح هذا العلم يتماشى والتطور العلمي والتقاني الحديث المستند على التحليل والقياس والربط واستخدام النماذج والرياضيات الحديثة ونظم المعلومات الجغرافية. وبذلك سار في الاتجاه التطبيقي. وبدأت الجغرافيا تحتل موقعا متميزا بين العلوم خاصة في الدول المتقدمة. كونها علما تطبيقيا تعين صناع القرار والعامة بسواء في فهم العديد من الظواهر داخل أي وحدة مكانية وخارجها في التنظيم المكاني والإدارة المكانية والإدراك المكاني السياسي سواء بسواء. بيد أن إشكالية علم الجغرافيا وأزمته الحقيقية هي في تحديد المفاهيم ومعالجة المحتوى من خلال التداخل والترابط مع الاختصاصات الأخرى في العلوم الطبيعية والبشرية. إلا أن مناهجها تبقى مستقلة وواضحة الأهداف. فالجغرافي قاريء كل شيء لكنه كاتب جغرافيا فقط. وبعبارة أخرى فان الجغرافيا علم بمادتها، فن معالجتها، فلسفة بنظرتها. هذا المنهج ببساطة ينقلنا بالجغرافيا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة الفكر. أو كما يقول ستامب: إن الجغرافيا في ذات الوقت علم وفن وفلسفة.
هكذا نفهم علم الجغرافيا كعلم مستقل بين العلوم فشخصيتها المستقلة تتجسد فيما نسميه: الجغرافيا التطبيقية كونها تطبيق المنهج الجغرافي والتقنيات الحديثة المساعدة في حل المشكلات البيئية الطبيعية والبشرية وتقديم الحلول الناجزة لها في إطار التنظيم الإقليمي للبيئة. أما أن نظل نغالي في الفروع النسقية (الأصولية أو التخصصية) بعيدا عن كلية الأشياء والظواهر فهو لا يقود لأبعد من فقدان الهوية الجغرافية والانتماء غير الشرعي في أحضان الاختصاصات المغذية.
من هنا تبين عمق إيماننا بالمفهوم الإقليمي لوحدة علم الجغرافيا. وهذا يعني أن الجغرافيا تحتل المركز في دائرة العلوم المغذية ومنه اتجهت المفاهيم للأطراف. بيد أن تلك الأطراف أمدت المركز بقوانين ونظريات أعانته في النمو والحداثة.
وكما يقول ينسن أن الجغرافيا الإقليمية تعد جوهر علم الجغرافيا. ناظرين إلى الجغرافيا التسقية على أنها الإطار الذي يصاغ فيه اختيار تلك القوانين تجريبيا. وتصل الجغرافيا الإقليمية إلى منتهاها بالتحقق من القوانين الجغرافية وطرح توليفة تجمع بين الظواهر الطبيعية والبشرية في إقليم ما.
هكذا يتبين أن الجغرافيا كعلم يعاني من عدم الاستقرار الا ان حالة الاستقرار تظهر بشكل واضح في حالة التأكيد على المناهج الجغرافية وضمن صيغ وحدة المكان.
وإجمالا للقول أن علم الجغرافيا لن يكون له شأن علمي متميز إلا بظل تمسكه بمناهجه ووسائله الميدانية والعلمية والتقانية الحديثة المتطورة. بحيث تدفع الجغرافيين إلى سبر مجاهل الجديد في العلاقات الايكولوجية بمعيار النظرة الاجتو حضارية اخذين بالاعتبار المعيار الاقتصادي الايكولوجي (البيئي) متخذة من بناء النماذج وسيلة للتنبوء فمواكبة الثورة المعلوماتية ووسائل الاتصال والفهم المدرك لنظم المعلومات الجغرافية هي السبيل الكفيل بأحداث تغييرات نوعية في مدخلات علم الجغرافيا ومخرجاته بالتالي:
من هنا انبثقت فكرة هذا المؤلف لعلها تشكل إسهاما فاعلا في تحقيق الشخصية المستقلة لعلم الجغرافيا عن طريق مناهج البحث في أي من تخصصاتها. تلك المناهج التي تنفرد عما سواها من العلوم المغذية لفروعها النسقية واتساقا مع آراء “هاجيت” في بناء المنهج الجغرافي فإننا نرى بأن تخصص أربعة مقررات دراسية في مرحلة البكالوريوس لطلبة أقسام الجغرافيا. هي ((طرق البحث العلمي)) في المرحلة الأولى ومناهج البحث الجغرافي في المرحلة الثانية والتحليل الكمي والتقنيات المعاصرة في المرحلة الثالثة. وتتوج ثمار هذه المقررات في المرحلة الرابعة بمادة ((بحث تخرج)). عندها ستضمن إلى حد ما التكوين العلمي المنهجي لطالب الجغرافيا الذي نأمل فيه أن يكون صانعا لمادة هذا التخصص لا مردداً لأفكار لاتخرج عن إطار الثقافة العامة أو ربما الممسوح من تلك الثقافةًًً!!!
وقد يثار تساؤل وهل للكوادر التدريسية المتاحة في العديد من جامعاتنا القدرة على الاستيعاب والتنفيذ لمثل هذه الأفكار؟ أن الإجابة تكمن في الإيجاب إذا ماتم تفعيل التعليمات الجامعية المختلفة. ومنها الترقيات العلمية والنشر خارج القطر الواحد. أما أن تظل قنوات النشر العلمي المحلية هي السائدة والمعتمدة فلا أظن في ذلك ما يدفع على التطور والإبداع. وفعلا فهناك العديد من حصل على مرتبة الأستاذية فضلا عن الأقل منها دون أن ينشر حرفا واحدا خارج بلاده!!!
وجاء هذا الكتاب ليكمل المسيرة العلمية المقترحة فقد سبقه كتابنا عن ((طرق البحث العلمي)) وسيليه كتاب إن شاء الله عن التحليل الكمي والتقانية المعاصرة.
على أن من الموضوعية أن نشير إلى أن مؤلفنا هذا يقع في ستة فصول. عالج الأول منها تطور مفهوم علم الجغرافيا وإشكاليات هذا العلم طارحا الخيارات المطلوبة في هذا الاتجاه في المناهج والكادر التدريسي سواء. أما الفصل الثاني فقد رأينا بضرورته – في هذا المؤلف أيضا – وهو يتناول منهجية البحث العلمي في تحديد المشكلة وفروضها ومناهجها وخطوات البحث أو تعميمه. ليكون تذكيرا ومدخلا لفهم مناهج البحث الجغرافي.
وجاءت الفصول الثلاثة التالية ليتصدى كل منها علـى التوالي مناهج البحث فـي الجغرافيا الطبيعية (فـي الجمورفولوجيا وجغرافية المنـاخ وجغرافية الموارد الطبيعية). ومناهج البحث فـي الجغرافيا الاقتصاديـة (جغرافية الزراعة، والطاقة، والنفـط، والصناعة، والسياحة، والنقل) ثـم الفصل التالي لهما وقـد تناول مناهج البحـث فـي الجغرافيا الاجتماعية (جغرافية السكان وجغرافية العمـران الريفـي والحضري والجغرافيـا السياسية).
وقد يشعر القاريء الكريم أن هناك تكرارا في أكثر من موضع وأكثر مـن فصل… فهذا تكرار مقصود للتأكيد علـى الاختصاصات الجغرافية المستدقة وليدة التطور والحداثة ولكنها تظل أسيرة تعليمات الجغرافيا ألام في التخصص أو الجغرافيا ألام الكبيرة كعلم الجغرافيا.
وجاء الفصل السادس ليتصدى لمشكلة نرى بضرورة معالجتها وهـي مسألة متطلبات البحث الجغرافـي التطبيقي المبتكر أو الأصيـل, وكيفية التحقق والقياس الكمي لذلك.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.