يواجه علماء الاقتصاد الاسلامي مظهرا جديدا من مظاهر العولمة المالية وهو الاقتراب من مفهوم يدفع العالم الرأسمالي نحو طريق ما يسمى بـ »اسلمة الرأسمالية المالية – The Islamization of Financial Capitalism « عن طريق توليد مركز مالي دولي للتعامل مع المنتجات المالية الاسلامية وعولمتها
ان الدعوة الى اسلمة رأس المال ان صح التعبير وتصاعدها في خضم الازمة المالية الدولية الراهنة، هي ظاهرة لم تأت من فراغ، بل اضحت واحدة من استراتيجيات المالية الدولية التي بدأ الاتحاد الاوربي باعتمادها من خلال وزيرة المالية والاقتصاد والتشغيل الفرنسي (كريستين لاغارد) في خطابها امام مؤتمر باريس الثاني للمالية الاسلامية الذي انعقد في شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2008، مؤكدة بجعل (باريس) مركزا ماليا تكنوقراطيا للصيرفة الاسلامية وجلب الاستثمارات الاسلامية الى الساحة الفرنسية وتحويلها الى تجمعا لكبريات المصارف الاسلامية التي ستكون بالطبع قاعدتها ثروات الشرق الاوسط، ولتسهيل اندماج الصيرفة الاسلامية في النظام المالي الفرنسي والخروج التدريجي من عنق الزجاجة التي تواجه (لندن) بكونها مركزا ماليا تكنوقراطيا للصيرفة التقليدية او الربوية (وطغيان المال الاقتراضي الانكلوسكسوني على المال الحقيقي)
ان الخروج من الازمة المالية الدولية الراهنة، يتطلب ابتكارا قويا لتدوير رأس المال، حيث راكمت اقطار الخليج والشرق الاوسط النفطية الاخرى من الاصول المالية الناجمة عن عوائد النفط ما يقارب 1.3 ترليون دولار بين الاعوام 2004 – 2008 محققة معدلات نمو سنوية بلغت 6%. اذ انعكس هذا الامر على ديمومة عيش مايزيد على 14 مليون عامل اجنبي في المنطقة بلغت تحويلاتهم السنوية بنحو 40 مليار دولار
وعلى الرغم من هبوط اسعار النفط من 147 دولار للبرميل الواحد الى مايقارب 50 – 60 دولاراً في النصف الاخير من العام 2008 وحتى الوقت الحاضر، ظلت مجموعة دول الشرق الاوسط هي الافضل اداءاً من بين المجموعات الدولية التي تعرضت كميات صادراتها الى التدهور ونزوح رؤوس الاموال عن بلدانها، مثل مجموعة اميركا اللاتينية، واوربا الشرقية وغيرها. ويعود ذلك الى ان جانبا مهما من مصارف المنطقة ظلت في منأى عن الانغماس في تلك الابتكارات المالية المولدة للموجودات الرديئة والتي انغمست فيها حقاًعموم الصيرفة التقليدية الدولية والتي ادت الى ازمة العالم المالية. كما سارعت البنوك المركزية الخليجية الى اخذ دورها في مؤازرة المصارف المتأثرة ومدها بالسيولة الكافية ورؤوس الاموال اللازمة، وان الشيء المهم الاساس هو استمرار بلدان الفائض الشرق اوسطية بادامة برامجها الاستثمارية وانفاقها على مشروعات رأس المال بصورة متواصلة
وعلى هذا الاساس، فان جعل باريس بوابة الصيرفة الاسلامية جاء منسجما مع فوائض منطقة الشرق الاوسط التي باتت تخشى الصيرفة الربوية سواء في مداخلها الاستثمارية العامة او موارد ثرواتها السيادية، فليس امامها الا ان تدخل عبر بوابة الاسلام الرأسمالي والصيرفة الاسلامية، حيث اخذت باريس تحتضن الظاهرة الجديدة وهي ظاهرة اسلمة الرأسمالية المالية، لتصبح مركزاً ماليا للصيرفة الاسلامية المعولمة، مثلما هي لندن مركزاً مالياً للصيرفة التقليدية او الربويــة
فعلى الرغم من عرض الاسلام ونشاطه المالي بشكل مجزأ واقحام بعض آلياته وادواته في المنظومة الاقتصادية للعولمة الرأسمالية، فان مشروعية الصيرفة الاسلامية في مسألتي تقاسم الارباح وادارة المخاطر المصرفيـة Risk Management فيما تفرضه من نماذج محددة سواء (في نطاق المشاركة او عقود المضاربة والمفاوضة والابدان والوجود وغيرها مانعة الجهالة بين الشركاء)، قـد بنت فلسفتها في تحقيق الوساطة المصرفية على قدر عال من الحوكمة Corporate Governance، عبر تحقيق شرطين اساسيين هما
– القيمة العادلـة – Fair Value، التي تمثل الاسعار الفعلية التي تنتقل
فيها الموجودات والخدمات المصرفية بين البائعين والمشترين الراغبين وبمستوى من الرشادة والعقلانية ومعرفة الحقائق المناسبة في تعاطي المنتجات المصرفية الاسلامية
– الافصاح – Disclosure، الذي تتولاه المصارف الاسلامية في تقاسم المعلومات والبيانات المالية لمستخدميها كافة، سواء اكانت ايجابية ام سلبية والمتعلقة
باتخاذ القرارات الاستثمارية، وبما يسمح لاصحاب حقوق الملكية والجهات الرقابية التدقيقية الخارجية او مستوياتها في السوق المالية بمعرفة حقيقة النشاط وكفاءته. دون جهالة تذكر، ذلك بسبب انفصال ذمة المالكين عن ذمة ادارة النشاط المصرفي
لقد بنيت المنطلقات الاساسية للصيرفة الاسلامية وادارتها للمخاطر، معتمدة »القيمة الجارية« في تحديد قيم الاصول (الموجودات) وقيم الالتزامات (المطلوبات) فيما يتصل بسلامة رأس المال المصرفي. وتـأتي الصيرفة الاسلامية في اعتمادها القيمة الجارية على عكس الصيرفة التقليدية التي اعتمدت (القيمة التاريخية او القيمة التاريخية المعدلة)، مما يجعلها قاصرة عن بيان المركز المالي للوحدة الاقتصادية وسلامة رأس المال. وعلى الرغم من التعديلات التي اعتمدتها المصارف التقليدية في اعداد القوائم المالية في ظل الادوات السعرية الجامحة وموجات التضخم، بالافصاح عن المعلومات المتعلقة بالاسعار واعتماد الكلفة التاريخية المعدلة كان كله مدعاة للمبالغة بالارباح وتوسيع مناطق الربح وجني ثمار الفقاعات السعرية والسير في ركاب السياسات المالية شديدة المخاطر حيت اعتادت بيوتات المالية الربوية على تغليب الربح على التحوط برؤوس اموال ينبغي لها ان تكون قوية وتوزيع ارباح وهمية هي في الاصل مقتطعة من رؤوس اموالها الحقيقية
ومن اللافت، ونحن نتناول الكتاب الذي بين ايدينا لمؤلفه اخي الفاضل الدكتور صادق راشد الشمري، الموسوم »اساسيات الاستثمار في المصارف الاسلامية« وهو الجهد العلمي الذي يمثل مفتاحاً من مفاتيح المرحلة التي يعيشها عالمنا اليوم وهو تحول العولمة المالية التقليدية نحو العولمة المالية اللاربوية، وعلى طاولتي واحد من الادلة المهمة التي اصدرتها لجنة (بازل) للرقابة المصرفية التابعة لبنك التسويات الدولية في العام/2009، ويتناول اهمية القيمة العادلة Fair Value للادوات المالية، عبر التحري عن اهمية تفعيل موضوع ادارة المخاطر المصرفية ولاسيما المقاييس المعتمدة للقيمة العادلة لرأس المال الرقابي وكفاية رأس المال، فضلا عن الكيفية التي يقيم فيها المصرف موجوداته المالية المعقدة او غير السائلة ذلك قدر تعلق الامر وبما يتصل بمتطلبات رأس المال الرقابي
وبغض النظر عن هذا وذاك، فأن المالية الاسلامية التي هي لصيقة بالقوانين الدينية في تفريقها بين الحلال والحرام في تحقيق الربح باعتمادها على القوة السامية غير المنظورة والتي منعت تعاطي (الربا) باشكاله كافة، فانها نجحت في تدفق الموارد من وحدات الفائض الى وحدات العجز ضمن عمليات الوساطة المالية الشرعية في تقاسم الارباح وتقاسم المخاطر معاً. حيث برهنت المصارف الاسلامية قدرتها بأن تمسك بزمام مبدأ فعال اساسه الحلال والحرام للوصول الى مفاهيم راسخة في ادارة المخاطـر الإسلامية Islamic Risk Management وصولا الى القيمة العادلة في تحديد اصول او موجودات المصارف الإسلامية
ان المحافظة على سلامة رأس المال من خلال القيم الجارية للاصول او الموجودات سواء الثابتة ام المتداولة لاغراض توزيع الربح قـد الزم الصيرفة الاسلامية الحفاظ على رأس المال الحقيقي لمصلحة النشاط الاقتصادي. اذ يعكس مثل هذا الامر، اقل الاحتمالات الممكنة لزيادة الاصول او الموجودات او حتى الدخل. وهي التقديرات الاكثر تحفظاً بالنسبة لتحسين الربح او المركز المالي للنشاط المصرفي خلال سنواته المالية والتي وفرها الكيان الفكري للمحاسبة المصرفية الاسلامية. فالاستثمارات في صكوك السلم والتأجير، يتم تقييمها (بالقيمة العادلة) في حالة تراجع قيمتها حتى نهاية الفترة. كذلك الاستثمارات العقارية، التي هي الاخرى تخضع لمبدأ (القيمة العادلة)، حيث يؤخذ فرق التقييم عن الكلفة ضمن حساب احتياطي (القيمة العادلة). وهذا مايتوافق واحكام الشريعة الاسلامية حقاً
ولـم تفاجأ الصيرفة الاسلامية، بالمعيار رقم (30) الخاص (بالافصاح) من بين المعايير الـ (41) التي اقرها مجلس المعايير المحاسبية الدولية، وهي معايير الابلاغ المالية الدولية – IRFRs التي توفر قاعدة عريضة للافصاح عند نشر منظمات الاعمال بياناتها وتقاريرها المالية بما فيها المصارف التي اعتمدها الاتحاد الاوربي منذ مطلع العام 2005
فالافصاح او الشفافية، تعدان من العناصر الرئيسة في اطار حوكمة الشركات والسيطرة على قوة اداء منظمات الاعمال، ذلك لما توفره من مشاركة في صنع وتداول المعلومات بين مستخدميها في داخل المنظمة وخارجها. وان تحقيق الكفاءة المعلوماتية تعد ركناً اساسياً في اتخاذ القرار الكفء وتوفير درجة عالية من درجات اليقين لبلوغ اهداف منظمات الاعمال الاستثمارية، اذ يرتبط عنصر الافصاح ارتباطاً وثيقاً باعتماد القيم الجارية لرأس المال. كما ان حرية استخدام البيانات المالية للجهات صاحبة المصلحة بالنشاط المصرفي الاسلامي، توفره عادة اجهزة الرقابة الشرعية، وبما ينسجم والتقويم المستمر لأساسيات الحوكمة المؤسسية ضمن الضوابط الشرعية. اذ تحرم الشريعة الاسلامية، استغلال حاجات الناس وتجهيل الزبائن وتضليل جمهور المتعاملين مع المصرف بما يجعلهم يتخذون قرارات تتعارض مع مصالحهم المشروعة وتصب في مصلحة المصرف الذاتية. وهي امور تتعلق عادة بتفادي الغش والتدليس. اذ يحدثنا التاريخ الاسلامي بأن اسواق يثرب وقبل الهجرة النبوية الشريفة كانت من اشد الاسواق مكراً في بخس الموازين وحتى نزول الآية الكريمة (ﯖ ﯗ ﯘ….) [المطففين]. لذا يمثل الافصاح العالي، واحدة من اساسيات الرقابة المصرفية الراهنة، حيث اظهرت الديون الرديئة التي لم تعكسها القوائم المالية لدى المصارف التقليدية بشكل صريح هي السبب الجوهري في حصول الازمة المالية الدولية، فضلا عن التصنيف الائتماني العالي للمقترضين الثانويين وخصوصاً السندات العقارية التي مثلت المقترضين لأغراض الرهن العقاري وفق معايير الاقراض الثانوية. والتي اشرت جميعها مخالفة صريحة لمبدأ الشفافية وفقدان الافصاح وقاد السوق المالية والصيرفة الربوية الى انهيارات مازال يتخبط فيها النظام المالي العالمي
ان امام الصناعة المصرفية الاسلامية التي تستند الى مبدأين رئيسيين من مبادىء الحوكمة الاسلامية وهي القيمة العادلة والافصاح، الاستمرار في تطوير المنتجات الاسلامية التي تمثل مجالا واسعا للصيرفة الحديثة لما تحمله من قدرة على التنويع المصرفي العالي بما في ذلك عمليات التسنيد Securitization التي تعني قيام المؤسسة المالية بتجميع الديون ذات النمط المتجانس والمضمون بأصول حقيقية ووضعها بصورة دين موحد وعرضها على الجمهور للاكتتاب بها عبر شركة مالية متخصصة بصورة سندات مالية (شرعية) وهو مايطلق عليه بالعربية ذات الاغراض الخاصة SPV
فالتسنيد الاسلامي على سبيل المثال هو ملزم شرعاً بالتسنيد التقليدي فبدلا من التسنيد المركب الذي تتولاه الصيرفة الربوية فأن التسنيد التقليدي هو مُسند بأصول حقيقية لا تسمح بالرهن لأكثر من مرة وتوليد هرم استثماري مصطنع القيمة مولد لفقاعات المضاربة السعرية
ختاماً، ان الكتاب الذي هو بين ايديكم، يمثل جهداً علميا في تناول الصيرفة الاسلامية بأسسها وقوانينها وآلياتها في عالم يتزايد فيه طلب مسلمي العالم على الاستثمارات المطابقة للشريعة السمحاء واعتـماد النظام المصرفي الاسلامي كبديـل للنظام المصـرفي التقليـدي بعد انهيار النظام المالي العالمي الراهن
([1]) Christen Lagard محامية فرنسية عملت في شركة محاماة Baker and Mckenzie الفرع الامريكي، وتولت شؤون الدفاع عن قضايا العمل والعمال ومحاربة الاتحادات الاحتكارية Anti-Trust قبل ان تشغل وظيفة وزيرة مالية فرنسا
([2]) من بين من تناول موضوع الشفافية ومبدأ الافصاح في الصيرفة الاسلامية والفكر المحاسبي الاسلامي في المدة الاخيرة وبتفصيل واسع هم السادة الكرام المحاسب القانوني محمد عمار عبد الحميد والدكتور سالم محمد عبود من المعهد العربي للمحاسبين القانونيين والاستاذ عدنان احمد يوسف من اتحاد المصارف العربية. جزاهم الله خيراً.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.